الجمعة، 1 يناير 2010

مستقبل ملف حقوق الإنسان في ليبيا بعد زيارة منظمة 'هيومن رايتس ووتش' استطلاع للرأي لموقع المنارة للإعلام

المحامي خالد زيو

رأي الأستاذ خالد زيو

المحامي والناشط الحقوقي

إن تقرير ' هيومن رايش ووتش ' جاء دون المستوي المتوقع، ذلك أن زيارة هذه المنظمة الحقوقية الكبرى هي الزيارة الأولى من نوعها، و قد تضمنت لأول مرة إصدار تقرير عن أوضاع حقوق الإنسان في ليبيا ومن داخلها، و بالتالي فالحدث كان استثنائيا، و كان ينتظر أن يصدر تقرير استثنائي، إلا أن الأمر لم يتمخض في نهاية المطاف إلا عن تقرير يمثل مكررة ' لامزيدة و لا منقحة ' عن التقارير السابقة،وعلي ذلك فإنني سأمتنع عن إبداء أية ملاحظة بشأنه باعتبارها ستكون – بدورها – ملاحظات مكررة .

أما تقرير جمعية حقوق الإنسان فهو تقرير ملفت لا بسبب مضمونه ' و هو مضمون لا بأس به ' بل بوصفه سابقة نوعية لتقرير يتضمن انتقادات واضحة و لوقائع محددة و يصدر عن جهة اعتبارية تعمل من داخل ليبيا، و بالتالي و بصرف النظر عن الجدوى المنتظرة من وراء صدور هذا التقرير فإن مجرد صدوره هو خطوة يستحق الإشادة .

غير أنه لا يجب أن يغيب عنا أن حقوق الإنسان تقبل التدرج، و لكنها لا تقبل التجزئة و الفارق كبير بين المفهومين

فهي – أي حقوق الإنسان – تقبل التدرج بمعني أنه لا بأس أن يبدأ التصحيح والتصويب بشأنها بخطوات متلاحقة حتى نصل إلى مستوي مقبول من صيانة واحترام حقوق الإنسان في ليبيا وفقا للقواعد الحقوقية الدولية .

غير أن تلك الحقوق لا تقبل التجزئة، إذ لا يمكن التركيز علي بعض جوانب تلك الحقوق بمعزل عن جوانبها الأخرى، فالأمر يجب أن يبدأ في آن واحد في الجانب السياسي و الجانب الاجتماعي و الأمني و الاقتصادي .... الخ

غير أن الأهم من كل ذلك أنه قبل الحديث عن حقوق الإنسان يجب أن نعيد بناء الإنسان ذاته – قبل بناء حقوقه – و أعني بذلك أن نتفق بداية علي أن الكرامة الآدمية و العيش الكريم ليست من ضمن حقوق الإنسان بل هي الإنسان ذاته

و علي ذلك فإن الكلام عن استقلالية الصحف مثلا لن يجد صدي لدي سكان السيرتي و المحيشي وهم يغوصون حتى الأذقان في مستنقعات الصرف الصحي أمام أعتاب منازلهم، حتى إن أطفالهم لا يعبرون إلى مدارسهم إلا عبر مجارة تلقي في البركة السوداء كجسر يتضاءل دونه جسر البوسفور قبل أن يتواروا عن أنظار آبائهم خلف جبال من القامة تقف شامخة في كبرياء يسخر من كبرياء أهرامات الفراعنة .

أما الحديث عن قانون الجمعيات الأهلية فلن يثير اهتمام طوابير العاطلين عن العمل و من بينهم آلاف المدرسين – من علمونا الحرف – و قد ألقي بهم الي قارعة الطريق بعد أن أفنوا زهرة العمر، يحرق الطباشير عيونهم و يغتال غلاء المعيشة أحلامهم و يحول ضيق ذات اليد و بين الحياة اللائقة،و ليكون جزاؤهم بعدما يذلوا لبناء أجيال الوطن سنمار .

أما الصوت الذي يتحدث عن حرية التعبير فسيتلاشى قبل أن يصدر، طالما أن الوطن قد صار يضيق بأبنائه كما يضيق القبر بجثة فاسق فاجر، حتى صار حلم الهجرة يداعب خيال الكثير من شبابنا و حتى مراهقتنا .

و لن نجد من يأبه للحديث عن حقوق المرأة و حقوق الطفل طالما لم يتمتع المواطن الليبي بمرافق صحية تراعي الحد الأدنى من معايير الكفاءة و حسن الاستقبال، و لا يتوجه إليها المواطن حاملا طفله في ساعة متأخرة أو حتى متقدمة من الليل و النهار ألا و هاجس الخوف من الخطأ الطبي الذي هو أقوى من هاجس الخوف من المرض نفسه، و ما دام الليبيون مستمرون في التوجه للعلاج في دول ' لولا هذا الوقت العاهر ' لكان رعاياها هم من يتوافدون للعلاج لدينا ... لا العكس .

و لن يهتم جيل كامل من الليبيين بأي حديث عن حق ممارسة العمل السياسي طالما لم يعرض ذلك الجيل علي طبيب نفسي ضليع لعلاجه من آثار حقبة الثمانيات التي عانينا فيها من اقتصاد الحرب - و المشكلة أنه لم تكن هناك حرب – حيث كان الحديث آنذاك عن الأجبان و الفواكه و حتى الملابس رجعية سافرة و عمالة للإمبريالية، و كنا نصنع الأحذية يدويا عند خرازي الفندق،و كان الحصول علي ثلاجة أو موقد للطهو مستحيلا ما لم يكن لديك ' كتف ماكن ' في شركة الأسواق العامة التي سرقت و صارت أسواقها أطلالا تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد .

و من يستمرئ الحديث عن بناء المؤسسات أمام ضحايا حوادث المرور في ليبيا، طالما أن الدولة عندنا لم تجد حلا لتقويم شركات التأمين الفاشلة و المترهلة إداريا إلا أن تصدر قانونا يحدد سقف التعويض بدراهم معدودة، بينما يثمن باقي العالم حياة أبنائه بالملايين .... فلماذا كانوا فينا من الزاهدين ؟

و أعرج أخيرا و نحن بصدد استعراض تقريري ' هيومن رايتس و وتش ' و 'جمعية حقوق الإنسان في ليبيا ' علي الموضوع الأكثر سخونة و هو موضوع ضحايا سجن ' أبو سليم ' فأشير أولا إلى أن هذا الموضوع كتب فيه الكثير، و بالتالي فلن أسهب طويلا في الحديث و لأكتفي بتناول زاوية معنية من الموضوع أشدد فيها علي بعض المسلمات

أول هذه المسلمات إن ما حصل هو جريمة بشعة نكراء لا يمكن القبول بها، وإن هؤلاء الشهداء لاقوا وجه ربهم في لحظة غاب فيها الضمير و انزوت فيها الأخلاق بل و انعدمت فيها الرجولة ' فليس من الرجولة قتل الأسرى '

أما المسلمة الثانية فهي أن مسؤولية الدولة ثابتة عما حصل، بدليل عرضها للتعويضات علي ذوي الضحايا، و إن كان مجرد الإقرار بالمسؤولية هو خطوة في الاتجاه الصحيح .

غير أن الأسلوب الذي اتبع لمعالجة هذا الجرح النازف كان غريبا و كان سيئا بما فيه الكفاية، ذلك أنه حتى وفقا للعرف الاجتماعي في ليبيا لا يمكن عرض التعويض المالي علي الضحية أو ذويه قبل تسليم الجاني الي القضاء ' و هذا ما يتم حتى في حوادث السير البسيطة فما بالك بالقتل العمد '

و أنا أتعجب – حتى المرارة – من هؤلاء الذين يسمونهم ' قيادات اجتماعية ' و أسألهم : هل يقبل الليبي أن يخطف ابنه و يعدم ثم يرسل إليه ظرف مغلق به مبلغ مالي ثمنا لذلك الدم الطاهر ؟ و دون أن يحاط – علي الأقل – بظروف وفاته ومن قتلة و أين وُوري جثمانه ؟

و علي ذلك فإن الواضح أن الدولة أخطأت حين أوكلت مهمة معالجة المسألة لأشخاص ليسوا علي قدر المسؤولية المناطة بهم، فتتفق ذهنهم عن سيناريو للحل لا يمكن القبول به وفقا للأعراف و التقاليد الليبية ناهيك عن مخالفته لأبسط مبادئ العدالة و الإنصاف و الفطرة السوية .

و أخلص إلى القول بأنني – و كثيرون مثلي – لا ندعو الي الانتقام، بل ما يعنينا بالدرجة الاولي هو المصالحة و المصارحة و المكاشفة و تقديم كل شئ علي حقيقته ،و لا مانع لدي – و لدي كثيرين مثلي – من تجاوز هذه الصفحة السوداء، و أن نوكل الأمر إلى الله العزيز ذي الانتقام، و نلتفت الي صالح هذا البلد، و أن نترك من أخطؤوا ' و ضيقوها في وجه هذا الشعب الطيب ' لمواجهة الديّان الذي لا يموت و لنبدأ معا ' كلنا ' لإصلاح ما فسد و لنسر معا ' كلنا ' جنبا الي جنب و لنحاول السير بليبيا الي الأمام لعل الغد يجدنا في نقطة أبعد من اليوم .

و الله من وراء القصد

خالد زيو

المحامي


نقلا عن موقع المنارة للإعلام

ليست هناك تعليقات: